يُعد إدمان العمل، أو ما يُعرف اصطلاحاً بـ "الهوس العملي"، اضطراباً سلوكياً معقداً يتجاوز بمراحل مفهوم الإخلاص في الوظيفة أو الطموح المهني، حيث يتحول العمل إلى حاجة قهرية تسيطر على كامل كيان الفرد وتستنزف طاقته النفسية والجسدية بشكل مدمر.
في مركز طريق الشفا، نتعامل مع إدمان العمل كنوع من "الهروب القهري" الذي يستخدمه المريض لتخدير مشاعر داخلية مثل القلق، أو تدني تقدير الذات، أو الفراغ العاطفي، حيث تتحول الإنجازات المهنية إلى "مخدر" يمنح شعوراً مؤقتاً بالنشوة من خلال إفراز الأدرينالين والدوبامين المرتبط بالنجاح.
هذا الاندفاع المستمر يضع الجهاز العصبي في حالة "استنفار دائم"، مما يؤدي إلى اختلال التوازن البيولوجي والنفسي، ويجعل المريض عاجزاً عن الاستمتاع بالحياة خارج نطاق المهام الوظيفية، وهو ما يتطلب تدخلاً علاجياً يهدف إلى إعادة تعريف مفهوم القيمة الشخصية بعيداً عن الإنتاجية المادية.
تتعدد المظاهر السريرية لإدمان العمل في مركزنا لتشمل أعراضاً جسدية بالغة الخطورة تنتج عن الإجهاد المزمن، مثل ارتفاع ضغط الدم، اضطرابات الجهاز الهضمي، وضعف الجهاز المناعي، بالإضافة إلى خطر الإصابة بالسكتات الدماغية والقلبية نتيجة عدم نيل القسط الكافي من الراحة. أما من الناحية النفسية، فإن مريض إدمان العمل يعاني من "قلق الانفصال عن العمل"، حيث يشعر بالذنب والاضطراب الشديد بمجرد محاولة الاسترخاء أو قضاء وقت مع الأسرة، مما يؤدي إلى تدهور حاد في العلاقات الاجتماعية والزوجية. نحن نرصد في طريق الشفا وصول هؤلاء المرضى إلى حالة "الاحتراق النفسي الكامل" (Burnout)، حيث ينهار المريض فجأة ويفقد القدرة على العمل تماماً، وهو ما يستدعي برنامجاً علاجياً مكثفاً لترميم الجهاز العصبي المنهك واستعادة الصحة النفسية المفقودة.
يعتمد منهجنا في مركز طريق الشفا على تطبيق بروتوكول "إعادة الهيكلة الحياتية"، وهو برنامج يهدف إلى كسر نمط الحياة القائم على العمل فقط من خلال فرض حدود صارمة بين الحياة المهنية والشخصية. تبدأ الرحلة بمرحلة "الاسترخاء الموجه" لتقليل مستويات الكورتيزول (هرمون الإجهاد) في الجسم، وإخضاع المريض لجدول أنشطة بدنية وتأملية تساعده على إعادة اكتشاف جسده واحتياجاته الطبيعية.
يواجه المريض في البداية "أعراضاً انسحابية" تتمثل في القلق الشديد والشعور بفقدان الأهمية، ولكننا نوفر دعماً نفسياً مستمراً لتعليمه أن قيمته كإنسان لا تتوقف على كمية المهام التي ينجزها. نحن نستخدم تقنيات "العلاج باللعب" والأنشطة الاجتماعية لاستثارة مراكز المتعة الطبيعية في الدماغ، وتدريب المريض على ممارسة الهوايات التي أهملها لسنوات، مما يساعده على بناء شخصية متوازنة قادرة على العطاء دون احتراق.
العلاج المعرفي السلوكي وتفكيك الجذور النفسية للإدمان المهني
يمثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT) الركن الأساسي في رحلة التعافي بمركزنا، حيث يعمل خبراؤنا على الغوص في أعماق المريض لاكتشاف "المحرك الخفي" وراء إدمان العمل؛ هل هو البحث عن رضا الوالدين؟ أم الهروب من مشاكل زوجية؟ أم رغبة في السيطرة المطلقة؟ نعمل على تصحيح المعتقدات المشوهة حول النجاح والفشل، وتعليم المريض كيفية "إدارة الذات" بدلاً من "إدارة المهام".
يتضمن البرنامج تدريبات على مهارات "الرفض الصحي" ووضع الحدود، وتمكين المريض من ممارسة "اليقظة الذهنية" ليكون حاضراً في علاقاته الإنسانية.
نحن نهدف في طريق الشفا إلى تحويل المريض من "آلة إنتاج" إلى "إنسان متفاعل"، يمتلك القدرة على الإبداع في عمله دون أن يضحي بصحته أو أسرته، من خلال بناء منظومة قيمية جديدة تعلي من شأن الصحة النفسية والترابط الأسري.
لأن بيئة العمل الحديثة تضغط دائماً باتجاه المزيد من الإنتاج، فإن مركز طريق الشفا يوفر نظام متابعة دقيقاً يضمن عدم عودة المريض إلى أنماطه الإدمانية القديمة.
يتضمن برنامج الرعاية اللاحقة جلسات دورية تهدف إلى مراقبة "معدلات الإجهاد" لدى المتعافي، وتدريبه على التعامل مع ضغوط العمل بمرونة نفسية.
كما نولي أهمية قصوى لتأهيل الأسرة وشريك الحياة ليكونوا "مرآة" للمريض، ينبهونه فور ملاحظة بوادر العودة للهوس بالعمل. نحن نوفر للمتعافين مجتمعاً داعماً وورش عمل حول "الإدارة الذكية للوقت"، مما يضمن لهم العودة إلى سوق العمل ككفاءات متزنة تمتلك السيطرة الكاملة على حياتها، إيماناً منا بأن النجاح الحقيقي هو القدرة على الموازنة بين طموح المهنة وسعادة الحياة، وهو ما يجسده متعافو طريق الشفا في رحلتهم الجديدة.